عرض افتراضى عرض شجرى
الكتب » مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين » هداية القرآن
عربى | Espanol | Deutsch | Francais | English
:الألوان
تغيير عرض الصفحة للأضيق
تغيير عرض الصفحة للأوسع
مقالات | الحديث | فتاوى | استشارات | صوتيات | بنين و بنات | عن إسلام ويب | اتصل بنا
مرحباً بكم فى المكتبة الإسلامية على شبكة إسلام ويب
بحث
بــحث
* الصفحة الرئيسية
* تعريف المكتبة
* الكتب
* موسوعة الحديث
* تراجم الأعلام
* كتب الأمة
أقسام المكتبة
شروح الحديث علوم القرآن أصول الفقه القواعد الفقهية لغة الفقه فروع الفقه المالكي فروع الفقه الشافعي الفتاوى السياسة الشرعية السيرة النبوية علوم الحديث فروع الفقه الحنبلي فروع الفقه الظاهري متون الحديث التاريخ والتراجم التراجم ، الأخلاق والتصوف تفسير القرآن الآداب والرقائق الفقه المقارن العقيدة الآداب الشرعية فروع الفقه الحنفي القضاء آيات الأحكام أحاديث الأحكام كتب اللغة العربية الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإعراب وسائر الفنون
العرض الموضوعي
العبادات المعاملات العادات الآداب الشرعية أصول الفقه تفسير القران العقيدة مصطلح الحديث السيرة التصوف والصوفية المنطق التاريخ والأمم السابقة
الفهارس
آيات قرآنية أحاديث شريفة الجماعات الأنبياء الأماكن الملائكة رجال نساء
بحث بحث مقدم
فهارس المكتبة خدمات الباحثين ثمرات المطابع
فهارس المكتبة خدمات الباحثين ثمرات المطابع
فهارس المكتبة خدمات الباحثين ثمرات المطابع
الآداب والرقائق
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ( ابن قيم الجوزية)
دار الكتاب العربي
سنة النشر: 1416 / 1996م
رقم الطبعة: ---
عدد الأجزاء: جزءان
ارسل لصديق
عرض افتراضى عرض شجرى
الكتب » مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين » هداية القرآن
مد النافذة لإظهار كل الأبواب بالجزء المختار
| نتائج البحث
التالى
إظهار التشكيل | إخفاء التشكيل
مسألة: الجزء الأول التحليل الموضوعي
[ ص: 27 ] بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين ، وإله المرسلين ، وقيوم السماوات والأرضين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين ، الفارق بين الهدى والضلال ، والغي والرشاد ، والشك واليقين ، أنزله لنقرأه تدبرا ، ونتأمله تبصرا ، ونسعد به تذكرا ، ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه ، ونصدق به ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه ، ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله سبحانه من أشجاره ، ورياحين الحكم من بين رياضه وأزهاره ، فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته ، وطريقه الموصلة لسالكها إليه ، ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات ، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات ، والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب ، وبابه الأعظم الذي منه الدخول ، فلا يغلق إذا غلقت الأبواب ، وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء ، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء ، والنزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء ، لا تفنى عجائبه ، ولا تقلع سحائبه ، ولا تنقضي آياته ، ولا تختلف دلالاته ، كلما ازدادت البصائر فيه تأملا وتفكيرا ، زادها هداية وتبصيرا ، وكلما بجست معينه فجر لها ينابيع الحكمة تفجيرا ، فهو نور البصائر من عماها ، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها ، وحياة القلوب ، ولذة النفوس ، ورياض القلوب ، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ، والمنادي بالمساء والصباح : يا أهل الفلاح ، حي على الفلاح ، نادى منادي الإيمان على رأس الصراط المستقيم ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم .
[ ص: 28 ] أسمع والله لو صادف آذانا واعية ، وبصر لو صادف قلوبا من الفساد خالية ، لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها ، وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها وأضاعت مفاتيحها ، وران عليها كسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا ، وتحكمت فيها أسقام الجهل فلم تنتفع معها بصالح العمل .
وا عجبا لها ! كيف جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولم تقبل الاغتذاء بكلام رب العالمين ، ونصوص حديث نبيه المرفوع ، أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ والصواب ، وخفي عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة والكتاب ؟ .
واعجبا ! كيف ميزت بين صحيح الآراء وسقيمها ، ومقبولها ومردودها ، وراجحها ومرجوحها ، وأقرت على أنفسها بالعجز عن تلقي الهدى والعلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان وكلام من أوتي جوامع الكلم ، واستولى كلامه على الأقصى من البيان ؟ .
كلا ، بل هي والله فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها ، وحيرت العقول عن طرائق قصدها ، يربى فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير .
وظنت خفافيش البصائر أنها الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون ، والنهاية التي تنافس فيها المنافسون ، وتزاحموا عليها ، وهيهات ، أين السهى من شمس الضحى ؟ وأين الثرى من كواكب الجوزاء ؟ وأين الكلام الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم ، من النقل المصدق عن القائل المعصوم ؟ وأين الأقوال التي أعلا درجاتها أن تكون سائغة الاتباع ، من النصوص الواجب على كل مسلم تقديمها وتحكيمها والتحاكم إليها في محل النزاع ؟ وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحذر ، من النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر ؟ وأين المذاهب التي إذا مات أربابها فهي من جملة الأموات ، من النصوص التي لا تزول إذا زالت الأرض والسماوات ؟
سبحان الله ! ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي ، واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر ؟ ! وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر ؟ قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا ، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا ، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا .
درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها ، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها ، ووقعت ألويته وأعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها ، وأفلت كواكبه النيرة من [ ص: 29 ] آفاق نفوسهم فلذلك لا يحبونها ، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يبصرونها .
خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة ، وعزلوها عن ولاية اليقين ، وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة ، فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم كمين بعد كمين ، نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام ، فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام ، وتلقوها من بعيد ، ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز ، وقالوا : ما لك عندنا من عبور ، وإن كان ولا بد ، فعلى سبيل الاجتياز ، أنزلوا النصوص منزلة الخليفة في هذا الزمان ، له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان ، المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر ، مبخوس حظه من المعقول ، والمقلد للآراء المتناقضة المتعارضة والأفكار المتهافتة لديهم هو الفاضل المقبول ، وأهل الكتاب والسنة ، المقدمون لنصوصها على غيرها جهال لديهم منقوصون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون .
حرموا والله الوصول ، بعدولهم عن منهج الوحي ، وتضييعهم الأصول ، وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها ، فخانتهم أحرص ما كانوا عليها ، وتقطعت بهم أسبابها أحوج ما كانوا إليها ، حتى إذا بعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور ، وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه ، وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه ، وقدموا على ما قدموه وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه .
فيا شدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكده هباء منثورا ، ويا عظم المصيبة عندما يتبين بوارق أمانيه خلبا ، وآماله كاذبة غرورا ، فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه يوم تبلى السرائر ؟ وعذر من نبذ الوحيين وراء ظهره في يوم لا تنفع الظالمين فيه المعاذر ؟
أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال ؟ أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال ، وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال ؟ أو بالإشارات والشطحات ، وأنواع الخيال ؟
[ ص: 30 ] هيهات والله ، لقد ظن أكذب الظن ، ومنته نفسه أبين المحال ، وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله على غيره ، وتزود التقوى وائتم بالدليل ، وسلك الصراط المستقيم ، واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم .
وبعد ، فلما كان كمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع ، والعمل الصالح ، وهما الهدى ودين الحق ، وبتكميله لغيره في هذين الأمرين ، كما قال تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر أقسم سبحانه أن كل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان ، وقوته العملية بالعمل الصالح ، وكمل غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه ، فالحق هو الإيمان والعمل ، ولا يتمان إلا بالصبر عليهما ، والتواصي بهما كان حقيقا بالإنسان أن ينفق ساعات عمره بل أنفاسه فيما ينال به المطالب العالية ، ويخلص به من الخسران المبين ، وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره واستخراج كنوزه وإثارة دفائنه ، وصرف العناية إليه ، والعكوف بالهمة عليه ، فإنه الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد ، والموصل لهم إلى سبيل الرشاد ، فالحقيقة والطريقة ، والأذواق والمواجيد الصحيحة ، كلها لا تقتبس إلا من مشكاته ، ولا تستثمر إلا من شجراته .
ونحن بعون الله ننبه على هذا بالكلام على فاتحة الكتاب وأم القرآن ، وعلى بعض ما تضمنته هذه السورة من هذه المطالب ، وما تضمنته من الرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال ، وما تضمنته من منازل السائرين ، ومقامات العارفين ، والفرق بين وسائلها وغاياتها ، ومواهبها وكسبياتها ، وبيان أنه لا يقوم غير هذه السورة مقامها ، ولا يسد مسدها ، ولذلك لم ينزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها .
والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
مسألة: الجزء الأول التحليل الموضوعي
[ ص: 27 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَبِهِ نَسْتَعِينُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، وَإِلَهُ الْمُرْسَلِينَ ، وَقَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ ، الْفَارِقُ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ ، وَالشَّكِّ وَالْيَقِينِ ، أَنْزَلَهُ لِنَقْرَأَهُ تَدَبُّرًا ، وَنَتَأَمَّلَهُ تَبَصُّرًا ، وَنَسْعَدَ بِهِ تَذَكُّرًا ، وَنَحْمِلَهُ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِهِ وَمَعَانِيهِ ، وَنُصَدِّقَ بِهِ وَنَجْتَهِدَ عَلَى إِقَامَةِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، وَنَجْتَنِي ثِمَارَ عُلُومِهِ النَّافِعَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ أَشْجَارِهِ ، وَرَيَاحِينَ الْحِكَمِ مِنْ بَيْنِ رِيَاضِهِ وَأَزْهَارِهِ ، فَهُوَ كِتَابُهُ الدَّالُّ عَلَيْهِ لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَتَهُ ، وَطَرِيقُهُ الْمُوَصِّلَةُ لِسَالِكِهَا إِلَيْهِ ، وَنُورُهُ الْمُبِينُ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَرَحْمَتُهُ الْمُهْدَاةُ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَالسَّبَبُ الْوَاصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ إِذَا انْقَطَعَتِ الْأَسْبَابُ ، وَبَابُهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي مِنْهُ الدُّخُولُ ، فَلَا يُغْلَقُ إِذَا غُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا تَمِيلُ بِهِ الْآرَاءُ ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ ، وَالنُّزُلُ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ ، لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ ، وَلَا تُقْلِعُ سَحَائِبُهُ ، وَلَا تَنْقَضِي آيَاتُهُ ، وَلَا تَخْتَلِفُ دِلَالَاتُهُ ، كُلَّمَا ازْدَادَتِ الْبَصَائِرُ فِيهِ تَأَمُّلًا وَتَفْكِيرًا ، زَادَهَا هِدَايَةً وَتَبْصِيرًا ، وَكُلَّمَا بَجَسَتْ مَعِينُهُ فَجَّرَ لَهَا يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ تَفْجِيرًا ، فَهُوَ نُورُ الْبَصَائِرِ مِنْ عَمَاهَا ، وَشِفَاءُ الصُّدُورِ مِنْ أَدْوَائِهَا وَجَوَاهَا ، وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ ، وَلَذَّةُ النُّفُوسِ ، وَرِيَاضُ الْقُلُوبِ ، وَحَادِي الْأَرْوَاحِ إِلَى بِلَادِ الْأَفْرَاحِ ، وَالْمُنَادِي بِالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ : يَا أَهْلَ الْفَلَاحِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، نَادَى مُنَادِي الْإِيمَانِ عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ .
[ ص: 28 ] أَسْمَعَ وَاللَّهِ لَوْ صَادَفَ آذَانًا وَاعِيَةً ، وَبَصَّرَ لَوْ صَادَفَ قُلُوبًا مِنَ الْفَسَادِ خَالِيَةً ، لَكِنْ عَصَفَتْ عَلَى الْقُلُوبِ هَذِهِ الْأَهْوَاءُ فَأَطْفَأَتْ مَصَابِيحَهَا ، وَتَمَكَّنَتْ مِنْهَا آرَاءُ الرِّجَالِ فَأَغْلَقَتْ أَبْوَابَهَا وَأَضَاعَتْ مَفَاتِيحَهَا ، وَرَانَ عَلَيْهَا كَسْبُهَا فَلَمْ تَجِدْ حَقَائِقُ الْقُرْآنِ إِلَيْهَا مَنْفَذًا ، وَتَحَكَّمَتْ فِيهَا أَسْقَامُ الْجَهْلِ فَلَمْ تَنْتَفِعْ مَعَهَا بِصَالِحِ الْعَمَلِ .
وَا عَجَبًا لَهَا ! كَيْفَ جَعَلَتْ غِذَاءَهَا مِنْ هَذِهِ الْآرَاءِ الَّتِي لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ ، وَلَمْ تَقْبَلِ الِاغْتِذَاءَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَنُصُوصِ حَدِيثِ نَبِيِّهِ الْمَرْفُوعِ ، أَمْ كَيْفَ اهْتَدَتْ فِي ظُلَمِ الْآرَاءِ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ ، وَخَفِيَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ مِنَ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ ؟ .
وَاعَجَبًا ! كَيْفَ مَيَّزَتْ بَيْنَ صَحِيحِ الْآرَاءِ وَسَقِيمِهَا ، وَمَقْبُولِهَا وَمَرْدُودِهَا ، وَرَاجِحِهَا وَمَرْجُوحِهَا ، وَأَقَرَّتْ عَلَى أَنْفُسِهَا بِالْعَجْزِ عَنْ تَلَقِّي الْهُدَى وَالْعِلْمِ مِنْ كَلَامِ مَنْ كَلَامُهُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، وَهُوَ الْكَفِيلُ بِإِيضَاحِ الْحَقِّ مَعَ غَايَةِ الْبَيَانِ وَكَلَامِ مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ، وَاسْتَوْلَى كَلَامُهُ عَلَى الْأَقْصَى مِنَ الْبَيَانِ ؟ .
كَلَّا ، بَلْ هِيَ وَاللَّهِ فِتْنَةٌ أَعْمَتِ الْقُلُوبَ عَنْ مَوَاقِعِ رُشْدِهَا ، وَحَيَّرَتِ الْعُقُولَ عَنْ طَرَائِقِ قَصْدِهَا ، يُرَبَّى فِيهَا الصَّغِيرُ ، وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ .
وَظَنَّتْ خَفَافِيشُ الْبَصَائِرِ أَنَّهَا الْغَايَةُ الَّتِي يَتَسَابَقُ إِلَيْهَا الْمُتَسَابِقُونَ ، وَالنِّهَايَةُ الَّتِي تَنَافَسَ فِيهَا الْمُنَافِسُونَ ، وَتَزَاحَمُوا عَلَيْهَا ، وَهَيْهَاتَ ، أَيْنَ السُّهَى مِنْ شَمْسِ الضُّحَى ؟ وَأَيْنَ الثَّرَى مِنْ كَوَاكِبِ الْجَوْزَاءِ ؟ وَأَيْنَ الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ تُضْمَنْ لَنَا عِصْمَةُ قَائِلِهِ بِدَلِيلٍ مَعْلُومٍ ، مِنَ النَّقْلِ الْمُصَدَّقِ عَنِ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ ؟ وَأَيْنَ الْأَقْوَالُ الَّتِي أَعَلَا دَرَجَاتِهَا أَنْ تَكُونَ سَائِغَةَ الِاتِّبَاعِ ، مِنَ النُّصُوصِ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ تَقْدِيمُهَا وَتَحْكِيمُهَا وَالتَّحَاكُمُ إِلَيْهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ؟ وَأَيْنَ الْآرَاءُ الَّتِي نَهَى قَائِلُهَا عَنْ تَقْلِيدِهِ فِيهَا وَحَذَّرَ ، مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي فَرَضَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَا وَيَتَبَصَّرَ ؟ وَأَيْنَ الْمَذَاهِبُ الَّتِي إِذَا مَاتَ أَرْبَابُهَا فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ ، مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي لَا تَزُولُ إِذَا زَالَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ ؟
سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَاذَا حُرِمَ الْمُعْرِضُونَ عَنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ ، وَاقْتِبَاسِ الْعِلْمِ مِنْ مِشْكَاتِهِ مِنْ كُنُوزِ الذَّخَائِرِ ؟ ! وَمَاذَا فَاتَهُمْ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَاسْتِنَارَةِ الْبَصَائِرِ ؟ قَنَعُوا بِأَقْوَالٍ اسْتَنْبَطَتْهَا مَعَاوِلُ الْآرَاءِ فِكْرًا ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا زُبُرًا ، وَأَوْحَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ، فَاتَّخَذُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقُرْآنَ مَهْجُورًا .
دَرَسَتْ مَعَالِمُ الْقُرْآنِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَيْسُوا يَعْرِفُونَهَا ، وَدُثِرَتْ مَعَاهِدُهُ عِنْدَهُمْ فَلَيْسُوا يَعْمُرُونَهَا ، وَوَقَعَتْ أَلْوِيَتُهُ وَأَعْلَامُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَلَيْسُوا يَرْفَعُونَهَا ، وَأَفَلَتْ كَوَاكِبُهُ النَّيِّرَةُ مِنْ [ ص: 29 ] آفَاقِ نُفُوسِهِمْ فَلِذَلِكَ لَا يُحِبُّونَهَا ، وَكَسَفَتْ شَمْسُهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ ظُلَمِ آرَائِهِمْ وَعَقْدِهَا فَلَيْسُوا يُبْصِرُونَهَا .
خَلَعُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ عَنْ سُلْطَانِ الْحَقِيقَةِ ، وَعَزَلُوهَا عَنْ وِلَايَةِ الْيَقِينِ ، وَشَنُّوا عَلَيْهَا غَارَاتِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ ، فَلَا يَزَالُ يَخْرُجُ عَلَيْهَا مِنْ جُيُوشِهِمْ كَمِينٌ بَعْدَ كَمِينٍ ، نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الضَّيْفِ عَلَى أَقْوَامٍ لِئَامٍ ، فَعَامَلُوهَا بِغَيْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ ، وَتَلَقَّوْهَا مِنْ بَعِيدٍ ، وَلَكِنْ بِالدَّفْعِ فِي صُدُورِهَا وَالْأَعْجَازِ ، وَقَالُوا : مَا لَكِ عِنْدَنَا مِنْ عُبُورٍ ، وَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ ، فَعَلَى سَبِيلِ الِاجْتِيَازِ ، أَنْزَلُوا النُّصُوصَ مَنْزِلَةَ الْخَلِيفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، لَهُ السَّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ وَمَا لَهُ حُكْمٌ نَافِذٌ وَلَا سُلْطَانٌ ، الْمُتَمَسِّكُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ صَاحِبُ ظَوَاهِرَ ، مَبْخُوسٌ حَظُّهُ مِنَ الْمَعْقُولِ ، وَالْمُقَلِّدُ لِلْآرَاءِ الْمُتَنَاقِضَةِ الْمُتَعَارِضَةِ وَالْأَفْكَارِ الْمُتَهَافِتَةِ لَدَيْهِمْ هُوَ الْفَاضِلُ الْمَقْبُولُ ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، الْمُقَدِّمُونَ لِنُصُوصِهَا عَلَى غَيْرِهَا جُهَّالٌ لَدَيْهِمْ مَنْقُوصُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ .
حُرِمُوا وَاللَّهِ الْوُصُولَ ، بِعُدُولِهِمْ عَنْ مَنْهَجِ الْوَحْيِ ، وَتَضْيِيعِهِمُ الْأُصُولَ ، وَتَمسَّكُوا بِأَعْجَازٍ لَا صُدُورَ لَهَا ، فَخَانَتْهُمْ أَحْرَصَ مَا كَانُوا عَلَيْهَا ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ أَسْبَابُهَا أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا ، حَتَّى إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ، وَتَمَيَّزَ لِكُلِّ قَوْمٍ حَاصِلُهُمُ الَّذِي حَصَّلُوهُ ، وَانْكَشَفَتْ لَهُمْ حَقِيقَةُ مَا اعْتَقَدُوهُ ، وَقَدِمُوا عَلَى مَا قَدَّمُوهُ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَسَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ عِنْدَ الْحَصَادِ لَمَّا عَايَنُوا غَلَّةَ مَا بَذَرُوهُ .
فَيَا شِدَّةَ الْحَسْرَةِ عِنْدَمَا يُعَايِنُ الْمُبْطِلُ سَعْيَهُ وَكَدَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ، وَيَا عُظْمَ الْمُصِيبَةِ عِنْدَمَا يَتَبَيَّنُ بَوَارِقَ أَمَانِيهِ خُلَّبًا ، وَآمَالَهُ كَاذِبَةً غُرُورًا ، فَمَا ظَنُّ مَنِ انْطَوَتْ سَرِيرَتُهُ عَلَى الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ لِلْآرَاءِ بِرَبِّهِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ؟ وَعُذْرُ مَنْ نَبَذَ الْوَحْيَيْنِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فِي يَوْمٍ لَا تَنْفَعُ الظَّالِمِينَ فِيهِ الْمَعَاذِرُ ؟
أَفَيَظُنُّ الْمُعْرِضُ عَنْ كِتَابِ رَبِّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ رَبِّهِ بِآرَاءِ الرِّجَالِ ؟ أَوْ يَتَخَلَّصَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ بِكَثْرَةِ الْبُحُوثِ وَالْجِدَالِ ، وَضُرُوبِ الْأَقْيِسَةِ وَتَنَوُّعِ الْأَشْكَالِ ؟ أَوْ بِالْإِشَارَاتِ وَالشَّطَحَاتِ ، وَأَنْوَاعِ الْخَيَالِ ؟
[ ص: 30 ] هَيْهَاتَ وَاللَّهِ ، لَقَدْ ظَنَّ أَكْذَبَ الظَّنِّ ، وَمَنَّتْهُ نَفْسُهُ أَبْيَنَ الْمُحَالِ ، وَإِنَّمَا ضُمِنَتِ النَّجَاةُ لِمَنْ حَكَّمَ هُدَى اللَّهِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَتَزَوَّدَ التَّقْوَى وَائْتَمَّ بِالدَّلِيلِ ، وَسَلَكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْوَحْيِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
وَبَعْدُ ، فَلَمَّا كَانَ كَمَالُ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَهُمَا الْهُدَى وَدِينُ الْحَقِّ ، وَبِتَكْمِيلِهِ لِغَيْرِهِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ خَاسِرٌ إِلَّا مَنْ كَمَّلَ قُوَّتَهُ الْعِلْمِيَّةَ بِالْإِيمَانِ ، وَقُوَّتَهُ الْعَمَلِيَّةَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَكَمَّلَ غَيْرَهُ بِالتَّوْصِيَةِ بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ ، فَالْحَقُّ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ ، وَلَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَيْهِمَا ، وَالتَّوَاصِي بِهِمَا كَانَ حَقِيقًا بِالْإِنْسَانِ أَنْ يُنْفِقَ سَاعَاتِ عُمْرِهِ بَلْ أَنْفَاسَهُ فِيمَا يَنَالُ بِهِ الْمَطَالِبَ الْعَالِيَةَ ، وَيَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَاسْتِخْرَاجِ كُنُوزِهِ وَإِثَارَةِ دَفَائِنِهِ ، وَصَرْفِ الْعِنَايَةِ إِلَيْهِ ، وَالْعُكُوفِ بِالْهِمَّةِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ الْكَفِيلُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ، وَالْمُوَصِّلُ لَهُمْ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ ، فَالْحَقِيقَةُ وَالطَّرِيقَةُ ، وَالْأَذْوَاقُ وَالْمَوَاجِيدُ الصَّحِيحَةُ ، كُلُّهَا لَا تُقْتَبَسُ إِلَّا مِنْ مِشْكَاتِهِ ، وَلَا تُسْتَثْمَرُ إِلَّا مِنْ شَجَرَاتِهِ .
وَنَحْنُ بِعَوْنِ اللَّهِ نُنَبِّهُ عَلَى هَذَا بِالْكَلَامِ عَلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأُمِّ الْقُرْآنِ ، وَعَلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَطَالِبِ ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ ، وَمَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ وَسَائِلِهَا وَغَايَاتِهَا ، وَمَوَاهِبِهَا وَكَسْبِيَّاتِهَا ، وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُ هَذِهِ السُّورَةِ مَقَامَهُا ، وَلَا يَسُدُّ مَسَدَّهَا ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا .
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَعَلَيْهِ الْتُكْلَانُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .
مسألة: الجزء الأول التحليل الموضوعي
[ ص: 27 ] بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين ، وإله المرسلين ، وقيوم السماوات والأرضين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين ، الفارق بين الهدى والضلال ، والغي والرشاد ، والشك واليقين ، أنزله لنقرأه تدبرا ، ونتأمله تبصرا ، ونسعد به تذكرا ، ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه ، ونصدق به ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه ، ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله سبحانه من أشجاره ، ورياحين الحكم من بين رياضه وأزهاره ، فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته ، وطريقه الموصلة لسالكها إليه ، ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات ، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات ، والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب ، وبابه الأعظم الذي منه الدخول ، فلا يغلق إذا غلقت الأبواب ، وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء ، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء ، والنزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء ، لا تفنى عجائبه ، ولا تقلع سحائبه ، ولا تنقضي آياته ، ولا تختلف دلالاته ، كلما ازدادت البصائر فيه تأملا وتفكيرا ، زادها هداية وتبصيرا ، وكلما بجست معينه فجر لها ينابيع الحكمة تفجيرا ، فهو نور البصائر من عماها ، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها ، وحياة القلوب ، ولذة النفوس ، ورياض القلوب ، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ، والمنادي بالمساء والصباح : يا أهل الفلاح ، حي على الفلاح ، نادى منادي الإيمان على رأس الصراط المستقيم ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم .
[ ص: 28 ] أسمع والله لو صادف آذانا واعية ، وبصر لو صادف قلوبا من الفساد خالية ، لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها ، وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها وأضاعت مفاتيحها ، وران عليها كسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا ، وتحكمت فيها أسقام الجهل فلم تنتفع معها بصالح العمل .
وا عجبا لها ! كيف جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولم تقبل الاغتذاء بكلام رب العالمين ، ونصوص حديث نبيه المرفوع ، أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ والصواب ، وخفي عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة والكتاب ؟ .
واعجبا ! كيف ميزت بين صحيح الآراء وسقيمها ، ومقبولها ومردودها ، وراجحها ومرجوحها ، وأقرت على أنفسها بالعجز عن تلقي الهدى والعلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان وكلام من أوتي جوامع الكلم ، واستولى كلامه على الأقصى من البيان ؟ .
كلا ، بل هي والله فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها ، وحيرت العقول عن طرائق قصدها ، يربى فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير .
وظنت خفافيش البصائر أنها الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون ، والنهاية التي تنافس فيها المنافسون ، وتزاحموا عليها ، وهيهات ، أين السهى من شمس الضحى ؟ وأين الثرى من كواكب الجوزاء ؟ وأين الكلام الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم ، من النقل المصدق عن القائل المعصوم ؟ وأين الأقوال التي أعلا درجاتها أن تكون سائغة الاتباع ، من النصوص الواجب على كل مسلم تقديمها وتحكيمها والتحاكم إليها في محل النزاع ؟ وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحذر ، من النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر ؟ وأين المذاهب التي إذا مات أربابها فهي من جملة الأموات ، من النصوص التي لا تزول إذا زالت الأرض والسماوات ؟
سبحان الله ! ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي ، واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر ؟ ! وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر ؟ قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا ، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا ، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا .
درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها ، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها ، ووقعت ألويته وأعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها ، وأفلت كواكبه النيرة من [ ص: 29 ] آفاق نفوسهم فلذلك لا يحبونها ، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يبصرونها .
خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة ، وعزلوها عن ولاية اليقين ، وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة ، فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم كمين بعد كمين ، نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام ، فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام ، وتلقوها من بعيد ، ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز ، وقالوا : ما لك عندنا من عبور ، وإن كان ولا بد ، فعلى سبيل الاجتياز ، أنزلوا النصوص منزلة الخليفة في هذا الزمان ، له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان ، المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر ، مبخوس حظه من المعقول ، والمقلد للآراء المتناقضة المتعارضة والأفكار المتهافتة لديهم هو الفاضل المقبول ، وأهل الكتاب والسنة ، المقدمون لنصوصها على غيرها جهال لديهم منقوصون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون .
حرموا والله الوصول ، بعدولهم عن منهج الوحي ، وتضييعهم الأصول ، وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها ، فخانتهم أحرص ما كانوا عليها ، وتقطعت بهم أسبابها أحوج ما كانوا إليها ، حتى إذا بعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور ، وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه ، وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه ، وقدموا على ما قدموه وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه .
فيا شدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكده هباء منثورا ، ويا عظم المصيبة عندما يتبين بوارق أمانيه خلبا ، وآماله كاذبة غرورا ، فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه يوم تبلى السرائر ؟ وعذر من نبذ الوحيين وراء ظهره في يوم لا تنفع الظالمين فيه المعاذر ؟
أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال ؟ أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال ، وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال ؟ أو بالإشارات والشطحات ، وأنواع الخيال ؟
[ ص: 30 ] هيهات والله ، لقد ظن أكذب الظن ، ومنته نفسه أبين المحال ، وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله على غيره ، وتزود التقوى وائتم بالدليل ، وسلك الصراط المستقيم ، واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم .
وبعد ، فلما كان كمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع ، والعمل الصالح ، وهما الهدى ودين الحق ، وبتكميله لغيره في هذين الأمرين ، كما قال تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر أقسم سبحانه أن كل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان ، وقوته العملية بالعمل الصالح ، وكمل غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه ، فالحق هو الإيمان والعمل ، ولا يتمان إلا بالصبر عليهما ، والتواصي بهما كان حقيقا بالإنسان أن ينفق ساعات عمره بل أنفاسه فيما ينال به المطالب العالية ، ويخلص به من الخسران المبين ، وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره واستخراج كنوزه وإثارة دفائنه ، وصرف العناية إليه ، والعكوف بالهمة عليه ، فإنه الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد ، والموصل لهم إلى سبيل الرشاد ، فالحقيقة والطريقة ، والأذواق والمواجيد الصحيحة ، كلها لا تقتبس إلا من مشكاته ، ولا تستثمر إلا من شجراته .
ونحن بعون الله ننبه على هذا بالكلام على فاتحة الكتاب وأم القرآن ، وعلى بعض ما تضمنته هذه السورة من هذه المطالب ، وما تضمنته من الرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال ، وما تضمنته من منازل السائرين ، ومقامات العارفين ، والفرق بين وسائلها وغاياتها ، ومواهبها وكسبياتها ، وبيان أنه لا يقوم غير هذه السورة مقامها ، ولا يسد مسدها ، ولذلك لم ينزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها .
والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
السابق
|
| من 1
التالي
جميع حقوق النشر محفوظة 1430هـ
Islamweb.net
وثيقة الخصوصية | اتفاقية الخدمة
الآداب والرقائق
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ( ابن قيم الجوزية)
دار الكتاب العربي
سنة النشر: 1416 / 1996م
رقم الطبعة: ---
عدد الأجزاء: جزءان
تقديم وإعداد ٠ عبدالرزاق مصطفى - إعلاميٌ ناقدٌ ، باحثٌ ومحللٌ
السويد - المصادف - الأحدد ١٠ محرم ١٤٣١ ه ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٩ م
نقلاً عن المكتبة الإسلامية بحلتها الجديدة - إسلام ويب - كتب تراثية - أبحاث علمية - وخدمات تفاعلة - وبعض المراجع والدعاة الإسلاميون الموثوقه